مصر تقود المعركة الدبلوماسية: من الأمم المتحدة إلى شانغهاي استراتيجية جديدة لموازنة النفوذ الإسرائيلي-الأمريكي
لحظة تحوّل تاريخي في
الاستراتيجية المصرية
لم تشهد الدبلوماسية
المصرية منذ توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل قبل 47 عامًا حراكًا متعدد المحاور
كما هو الحال الآن.
في مشهد يعكس تحولًا
جوهريًا، لم تعد القاهرة تنتظر ردود الفعل، بل تطلق استباقية دبلوماسية غير مسبوقة
لمواجهة تحديات و جودية تتراوح بين مخطط التهجير إلى سيناء و ضغوط سد النهضة.
تعيد مصر تعريف دورها
الإقليمي من خلال مشاركة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي النشطة على المسرح الدولي،
بدءًا من كلمته التاريخية نيابة عن الرئيس السيسي في الجمعية العامة للأمم
المتحدة، مرورًا بقمة ترامب العربية-الإسلامية، و وصولاً إلى اجتماعات منظمة
شانغهاي للأمن في الصين.
هذه التحركات ليست منفصلة،
بل تشكل نسيجًا متكاملاً لاستراتيجية جديدة تهدف إلى كسر الاحتكار
الأمريكي-الإسرائيلي لملفات المنطقة.
كلمة الأمم المتحدة.. تحوّل من "الوساطة" إلى "القيادة"
مثّلت كلمة الدكتور مصطفى
مدبولي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر 2025 نقلة نوعية في الخطاب
الدبلوماسي المصري.
لم يكن الخطاب مجرد إدانة
للعدوان الإسرائيلي، بل كان إعلانًا عن انتهاء سياسة الصبر الاستراتيجي.
لأول مرة، قدم ممثل مصري
رفيع المستوى في هذا المحفل دوليًا وثيقة اتهام قانونية و سياسية شاملة، مستندًا
إلى تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة الذي يؤكد ارتكاب إسرائيل "جريمة
الإبادة الجماعية" في غزة.
الأهم من ذلك، أن مصر حوّلت
القضية الفلسطينية من قضية إنسانية إلى قضية أمن دولي، مشددة على أن "الطريق
الوحيد لشرق أوسط آمن هو ضمان حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة".
هذا التصعيد الدبلوماسي
المدعوم بأدلة قانونية يهدف إلى عزل إسرائيل دوليًا و وضعها في موقف المدافع، بعد
عقود من هيمنة روايتها.
قمة ترامب.. اختراق التحالف التقليدي و بناء جبهة عربية-إسلامية موحدة
لم يكن حضور رئيس الوزراء
المصري في القمة متعددة الأطراف التي دعا إليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على
هامش اجتماعات الأمم المتحدة حدثًا عاديًا.
في هذه القمة، التي ضمت
قادة من السعودية و قطر و الإمارات و الأردن و تركيا و إندونيسيا و باكستان، نجحت
الدبلوماسية المصرية في تحقيق هدفين استراتيجيين:
أولاً، تحييد محاولات فرض
أجندة أمريكية-إسرائيلية منفردة من خلال تقديم موقف عربي-إسلامي موحد رافض للتهجير
و داعم لوقف إطلاق النار وحل الدولتين.
ثانيًا، إظهار أن الطريق
إلى أي حل في المنطقة يمر عبر القاهرة، مما يعزز دورها كطرف لا غنى عنه.
البيان المشترك الصادر عن
القمة جاء متوافقًا إلى حد كبير مع المطالب المصرية، مما يشير إلى نجاحها في قيادة
الرأي داخل الغرفة بدلاً من الاكتفاء بالتعليق من الخارج.
منظمة شانغهاي للأمن.. البوابة الشرقية لتحقيق التوازن الاستراتيجي
يُعد توجه الدكتور مدبولي
إلى الصين للمشاركة في اجتماعات منظمة شانغهاي للأامن محورًا ثالثًا بالغ الأهمية
في الاستراتيجية المصرية الجديدة.
هذه الخطوة ليست مجرد زيارة
دبلوماسية، بل هي إشارة قوية إلى تنويع التحالفات و رفض الانحصار في الإطار الغربي
التقليدي.
في ظل التوترات مع واشنطن،
تبحث مصر عن شراكات استراتيجية بديلة تعزز من قدرتها على المناورة.
منظمة شانغهاي، التي تضم
قوى مثل الصين و روسيا و الهند، تمثل ناديًا مهماً لمكافحة الإرهاب و تعزيز الأمن
و التعاون الاقتصادي.
مشاركة مصر، و لو بصفة
مراقب في هذه المرحلة، تفتح أمامها أبواب الدعم السياسي و الاستثماري من كتلة تمثل
نحو 40% من سكان العالم، مما يمنحها ورقة ضغط مهمة في مفاوضاتها المستقبلية مع
واشنطن حول ملفات مثل سد النهضة و الضغوط الإسرائيلية.
الملف السوداني و الصومالي.. تعميق العمق الإفريقي كحائط صد
لا تنفصل الاستراتيجية المصرية
الجديدة عن عمقها الإفريقي. خلال مشاركته في جلسة مجلس السلم والأمن الإفريقي، أكد
وزير الخارجية بدر عبدالعاطي على التزام مصر بدعم استقرار السودان و الحفاظ على
وحدته، و الإعلان عن نية نشر عناصر شرطية و عسكرية في بعثة الاتحاد الإفريقي في
الصومال.
هذه التحركات تعكس إدراكًا
مصريًا بأن حماية الأمن القومي تمر عبر تأمين الجوار المباشر.
من خلال لعب دور فاعل في حل
الأزمات الإفريقية، لا تحصن مصر حدودها الجنوبية فحسب، بل تزيد من رصيدها
الدبلوماسي في المحافل الدولية، و تظهر نفسها كقاعدة إقليمية للأمن و الاستقرار،
في مقابل الصورة التي تحاول إسرائيل و أطراف أخرى تصديرها عنها.
الابتزاز المائي و الرفض المصري.. معادلة "السيادة مقابل البقاء"
في الخلفية من كل هذه
التحركات، يظل ملف سد النهضة الإثيوبي هو التهديد الوجودي الأبرز.
المعلومات المتداولة تشير
إلى أن إدارة ترامب حاولت استخدام الملف كورقة ضغط ضمن ما يُعرف بمعادلة
"سيناء مقابل المياه"، أي الضغط على مصر لقبول مخططات التهجير مقابل
تقديم تنازلات في ملف السد.
الرد المصري كان حاسمًا من
خلال رفض التهجير بشكل قاطع، و الاستمرار في المطالبة بحل عادل يضمن الحقوق
المائية التاريخية.
ربط مصر بين الملفين يعكس
فهماً استراتيجياً أن التنازل في أحدهما يعني انهياراً في الآخر.
التحرك الدبلوماسي المكثف
يهدف إلى حرمان الأطراف الضاغطة من هذه الورقة، من خلال كسب تأييد دولي يجعل من
غير المقبول دوليًا استخدام الماء كسلاح للابتزاز السياسي.
الخلاصة: عناصر قوة
الاستراتيجية المصرية الجديدة
1. تعددية المحاور:
الخروج من دائرة الاعتماد
شبه الأحادي على الوساطة الأمريكية إلى فتح قنوات مباشرة مع أوروبا والصين و الكتل
الآسيوية و الإفريقية.
2. الشرعية الدولية:
تحويل القضية من صراع
عربي-إسرائيلي إلى قضية تخص المجتمع الدولي بأكمله، عبر اللجوء إلى الأمم المتحدة
و مؤسسات القانون الدولي.
3. الوحدة العربية
والإسلامية:
قيادة جبهة عربية-إسلامية
موحدة تضع شروطًا جماعية لأي حل، مما يزيد من القوة التفاوضية.
4. ربط الملفات:
ربط ملف التهجير بملف سد
النهضة و الأمن الإقليمي، مما يجعل أي مفاوضات مستقبلية شاملة و ليست مجزأة.
التوصيات الاستراتيجية
للمرحلة القادمة:
لمصر:
التعاون التقني و العسكري
الأعمق مع أعضاء منظمة شانغهاي لخلق توازن استراتيجي حقيقي.
للدول العربية و الإسلامية:
دعم الموقف المصري بشكل
عملي من خلال اعترافات واسعة بدولة فلسطين، و فرض عقوبات على أي طرف يحاول استخدام
الماء كسلاح، و دعم مشاريع مصر التنموية في إفريقيا.
للمراقبين:
مراقبة تحركات الدبلوماسية
المصرية في الأشهر القادمة، خاصة مع استعدادات الانتخابات الأمريكية، حيث ستحاول
القاهرة استغلال أي فرصة لتعزيز مكاسبها.
الخاتمة: معركة إرادات على
شكل النظام الإقليمي الجديد
لم تعد المعركة تدور حول
وقف إطلاق النار في غزة فقط، بل حول شكل النظام الإقليمي الذي سيسود في الشرق
الأوسط لعقود قادمة.
مصر، من خلال استراتيجيتها
الجديدة، ترفض أن يكون هذا النظام ثنائي القطب (أمريكي-إسرائيلي) يفرض شروطه على
الجميع.
بدلاً من ذلك، تدفع نحو
نظام متعدد الأقطاب تكون فيه دولة فلسطينية مستقلة واقعًا قائمًا، و تكون فيه
السيادة الوطنية فوق سياسة الابتزاز.
النجاح ليس مضمونًا، لكن
تحوّل مصر من الدفاع إلى الهجوم الدبلوماسي هو أهم تطور إقليمي في عام 2025، و قد
يكون البوابة الوحيدة لسلام حقيقي يقوم على العدل و ليس الإملاءات.
تعليقات
إرسال تعليق